الصحراء واحد
الشعب والحكومة والإصلاح: معركة وعي قبل أن تكون معركة سلطة.
منذ فجر الفكر السياسي الحديث، ظل السؤال حول العلاقة بين الشعب والحكومة جوهر كل نقاش حول الدولة والشرعية والمشروعية. فهل الدولة تبنى لأجل السلطة أم لأجل المواطن؟ ومن الأهم في ميزان الوطن: استمرار الحكومة أم استقرار المجتمع؟
إن التجربة الإنسانية، على اختلاف نظمها، أثبتت أن الشعب هو الأصل، والحكومة مجرد وسيلة لخدمته. فالحكومة، في جوهرها، جهاز إداري وتنفيذي، وليست كيانا مقدسا أو غاية في حد ذاتها. إنها أداة مؤقتة لتحقيق مشروع مجتمعي قائم على العدل والكرامة والحرية. أما الشعب، فهو الثابت الذي تبنى عليه شرعية الدولة ودوامها. حين يتضرر الشعب، تسقط المبررات التي تُبقي أي حكومة قائمة، لأن الحكومات تستمد قيمتها وشرعيتها من قدرتها على خدمة الصالح العام، لا من بقائها في الكراسي.
في الأنظمة الديمقراطية الحقيقية، لا يُنظر إلى استقالة الحكومة كأزمة، بل كآلية طبيعية لتصحيح المسار. فالحكومة التي تُخفق في تحقيق التوازن بين العدالة الاجتماعية، بين التنمية والمواطنة، بين الوعود والواقع، لا يليق بها أن تتمسك بالسلطة. إن الاستقالة في هذه الحالة ليست ضعفا، بل تعبير عن نضج سياسي وشجاعة أخلاقية. فربط المسؤولية بالمحاسبة ليس شعارا يُرفع في الحملات الانتخابية، بل ركن من أركان الحكم الرشيد.
وإذا طرحنا هذا السؤال:
من الأهم، الحكومة أم السلم الاجتماعي؟
فالإجابة واضحة لكل من يؤمن بالوطن قبل الأشخاص: السلم الاجتماعي هو جوهر الوجود الوطني. فالدولة التي تفقد تماسكها الداخلي باسم الحفاظ على حكومة، هي دولة تسير نحو الهاوية. الحكومة يمكن تعويضها، لكن حين يتمزق النسيج الاجتماعي، يصعب ترميمه. لذلك، فكل إصلاح حقيقي يبدأ من حماية الإنسان قبل حماية الحكومة.
إن المشكلة ليست في سقوط الحكومات، بل في سقوط القيم التي من المفترض أن تؤطر عملها. المشكلة ليست في النقد، بل في تكميم الأفواه. ليست في الاحتجاج، بل في تجاهل مطالبه. ليست في الغضب الشعبي، بل في العجز عن الإصغاء إليه. فحين تغلق قنوات التواصل بين السلطة والمجتمع، يتحول الصمت إلى احتقان، والاحتقان إلى انفجار.
لقد أكد المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي أن “الأزمة تندلع حينما يموت القديم ويعجز الجديد عن الولادة.” وهذه بالضبط الحالة التي تعيشها بعض الحكومات التي تستمر رغم انتهاء صلاحية خطابها، وتتشبث بالكرسي بدل تجديد الثقة مع الشعب. الإصلاح الحقيقي لا يكون بترقيع الواقع، بل بإعادة بناء الثقة، والاعتراف بالأخطاء، وفتح المجال أمام كفاءات جديدة تؤمن بالوطن لا بالمناصب.
ومن هنا، لا يمكن لأي مشروع إصلاحي أن ينجح في غياب العدالة والمحاسبة. فمكافحة الفساد ليست ترفا سياسيا، بل ضرورة وجودية لأي دولة تريد أن تستمر. إن الفساد، كما يقول الفيلسوف مونتسكيو، “حين يدخل من نافذة السلطة، يخرج القانون من الباب”. ولذلك، لا معنى للإصلاح دون محاسبة، ولا معنى للمحاسبة دون شفافية واستقلالية القضاء.
إن الوطن لا يُختزل في حكومة، بل في منظومة قيم ومؤسسات وضمير جمعي. وحين تصبح المصلحة العامة شعارا للاستهلاك، يفقد المواطن ثقته في الدولة، ويغدو الإصلاح مستحيلا. لكن حين تكون هناك إرادة سياسية صادقة، ونخب فكرية واعية، ومجتمع مدني قوي، فإن التغيير يصبح ممكنا، لأن الشعوب لا تموت، حتى وإن تعثرت حكوماتها.
إن المعادلة الصحيحة التي تحفظ استقرار الوطن وتضمن تطوره، تقوم على ثلاثة أركان:
شعب واع يدافع ويعبر عن حقوقه بطرق سلمية، حكومة مسؤولة تعتبر نفسها في خدمة الأمة لا العكس وقضاء مستقل يضمن العدل والمساءلة للجميع.
فحين تجتمع هذه العناصر، يصبح الإصلاح ممكنا، والسلم الاجتماعي راسخا، والوطن أكبر من أي خلاف أو أزمة.
عاشت بلادي آمنة مستقرة، قوية بأبنائها، عادلة في مؤسساتها، حرة في قرارها.
أسلامة أشطوط.








