الصحراء واحد
الخطاب الملكي أمام البرلمان: رؤية استراتيجية لتعزيز العدالة الاجتماعية والتنمية الترابية في المغرب الصاعد.
الخطاب الملكي الذي ألقاه جلالة الملك بمناسبة افتتاح السنة الأخيرة من الولاية الحالية لمجلس النواب يشكل وثيقة سياسية واستراتيجية بالغة الأهمية، تعكس رؤية المملكة المغربية لمستقبل التنمية والتقدم، وتسلط الضوء على المبادئ الأساسية التي يجب أن تحكم عمل البرلمان والحكومة خلال المرحلة القادمة. إن قراءة تحليلية دقيقة لهذا الخطاب تكشف عن مجموعة من الإشارات الرئيسة التي تتيح فهم توجهات السياسات العمومية ومستوى الالتزام الوطني بمشاريع التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.
أول ما يلاحظ في الخطاب هو التركيز على “الدور المحوري للبرلمان في مرحلة السنة الأخيرة من الولاية”. إذ يؤكد جلالته على أهمية تكريس هذه الفترة للعمل المكثف والمسؤول، لاستكمال المخططات التشريعية وتنفيذ البرامج المفتوحة، مع التأكيد على اليقظة والالتزام في الدفاع عن قضايا الوطن والمواطنين. هذا التوجيه يعكس وعي القيادة بأهمية الكفاءة البرلمانية في مرحلة حاسمة، حيث يتم تقييم الإنجازات السابقة ووضع أسس المرحلة المقبلة.
كما يبرز الخطاب اهتماما بالغا ب”التوازن بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية”. يشدد الملك على أن التنمية لا يمكن أن تتحقق بمعزل عن تحسين ظروف عيش المواطنين، وأن الأولويات الاقتصادية يجب أن تكون متكاملة مع البرامج الاجتماعية، بما يحقق العدالة والمساواة. هذا المبدأ يعكس استراتيجية شاملة تقوم على الجمع بين النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، وهو ما يشكل توجها مستداما يتجاوز الإطار الزمني القصير.
من بين الإشارات الجوهرية الأخرى التي يمكن استخلاصها من الخطاب، هو التركيز على “تأطير المواطنين والتعريف بالمبادرات العمومية والقوانين”، بما يضمن حقوق وحريات المواطنين. يشير الملك بوضوح إلى أن هذه المسؤولية ليست حكومية فقط، بل تمتد لتشمل البرلمانيين، والأحزاب السياسية، والمنتخبين، ووسائل الإعلام، والمجتمع المدني، وكل القوى الفاعلة. هذا التوجه يعكس رؤية تشاركية للحكم، قائمة على إشراك المواطنين في معرفة حقوقهم ومتابعة السياسات العمومية، وهو ما يعزز الديمقراطية ويعمق الشفافية.
كما ركز الخطاب على “التنمية الترابية” باعتبارها محورا أساسيا لتحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية. يشدد الملك على ضرورة الإسراع في إطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية، والتي يجب أن تعكس تكافؤ الفرص بين مختلف مناطق المغرب، مع إيلاء اهتمام خاص بالمناطق الجبلية والهشة والسواحل، وتفعيل المراكز القروية لتقريب الخدمات من المواطنين. هذا التوجه يعكس فهما عميقا للتفاوتات المجالية وأهمية الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية، مع مراعاة الخصوصيات المحلية.
من جهة أخرى، يوضح الخطاب أن “التنمية المحلية ليست مجرد شعار سياسي”، بل معيار لمستوى تقدم المغرب الصاعد والمتضامن. ويؤكد على ضرورة تغيير العقليات وأساليب العمل، وترسيخ ثقافة النتائج، والاعتماد على المعطيات الميدانية الدقيقة والتكنولوجيا الرقمية لتعزيز النجاعة والفعالية في الاستثمار العمومي. هذا الجانب يشير إلى تبني مقاربة علمية واستراتيجية في تدبير السياسات العمومية، مع التركيز على الفاعلية والرقابة المستمرة.
كما يعطي الخطاب أهمية كبرى ل”خلق فرص الشغل للشباب، والنهوض بقطاعات التعليم والصحة، وتأهيل المجال الترابي”. ويؤكد جلالته على محاربة الممارسات التي تضيع الوقت والجهد، وتستنزف الإمكانات، بما يضمن استدامة الاستثمار العمومي ونجاعته. هذه الإشارة تعكس حرص القيادة على ربط التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالاستقرار الاجتماعي وبناء قدرات المواطن، خصوصا الشباب.
أخيرا، يحمل الخطاب بعدا “أخلاقيا وروحيا”، إذ يربط بين العمل الوطني والإيمان بالمسؤولية الفردية والجماعية أمام الله، مستشهدا بالآية الكريمة: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”. هذا الربط بين السياسة والأخلاق يعكس رؤية شاملة للحكم، تقوم على الالتزام بالشفافية والنزاهة والتفاني في خدمة الوطن والمواطنين.
بناءً على ذلك، يمكن استنتاج أن الخطاب الملكي يشكل خارطة طريق واضحة لمجلس النواب والحكومة، تحدد الأولويات الاستراتيجية للمملكة في مجالات التشريع، التنمية الترابية، العدالة الاجتماعية والمجالية، وتعزيز المشاركة الفعالة للمواطنين في متابعة السياسات العمومية. كما أنه يؤكد على ضرورة تبني مقاربة متكاملة تجمع بين التخطيط الاستراتيجي والفعالية البرلمانية، والالتزام الأخلاقي، بما يضمن استدامة الإنجازات ويحقق الطموح الوطني في المغرب الصاعد والمتضامن.
✍️: أسلامة أشطوط باحث في التراث والدراسات الصحراوية والإفريقية.








