كريم تكنزا يكتب: التطبال .. عندما يحول الأشخاص الى رموز قدسية والفشل لإنجاز

مدير الموقع14 ديسمبر 2025آخر تحديث :
كريم تكنزا يكتب: التطبال .. عندما يحول الأشخاص الى رموز قدسية والفشل لإنجاز

الصحراء واحد

التطبال .. عندما يحول الأشخاص الى رموز قدسية والفشل لإنجاز

في السنوات الأخيرة، بات المشهد الإعلامي بالصحراء ، خصوصًا في الصحافة السياسية، يشهد تمددًا مقلقًا لظاهرة التطبال الصحفي وتضخيم الأشخاص، لا لشيء سوى لأنهم يملكون السطوة والنفوذ . ظاهرة تُفرغ الصحافة من جوهرها الرقابي، وتحول بعض المنابر من سلطة رابعة إلى أبواق تلميع وتقديس.

لم يعد المدح مرتبطًا بإنجازات حقيقية أو حصيلة سياسية ملموسة، بل أصبح سلوكًا استباقيًا يمارسه بعض الصحفيين طمعًا في رضا المسؤول أو المستثمر أو المنتخب، أو خوفًا من سطوته او تسلطه. وهنا تتحول العلاقة من صحفي/موضوع إلى تابع/معبود، في اختلال خطير لمعادلة السلطة والمعرفة.

الصحافة، في أصلها، وجدت لتساءل لا لتصفق، ولتراقب لا لتُبارك. غير أن ما نلاحظه اليوم هو انسحاب تدريجي لفعل النقد، مقابل صعود خطاب إنشائي مليء بالأوصاف الفارغة والمكياجاوية : “الرجل القوي”، “الفاعل البارز”، “صاحب الرؤية الاستراتيجية”رجل المرحلة… دون أي مساءلة حول النتائج، أو السياسات، أو الأثر الحقيقي على حياة الساكنة.

هذا التحول التي بات تشهده الساحة الإعلامية بالصحراء لم يأتِ من فراغ، بل تغذيه بيئة اقتصادية هشة للصحافة، وضعف التكوين، وسلطة بعض النخب التي باتت تتحكم في جيوب الصحافة بالإضافة لغياب الهيئات تنظيمية فاعلة والنقابات التي باتت جزءاً من المنظومة بقربها من المنتخبين والسلطة الشي الذي فرغها من محتواها النقابي وحولها لمجرد فاعل مدني.

الأخطر من المدح والتطبال، هو أن المسألة تحولت لتحويل بعض الأشخاص إلى مقدسات. سياسيون، منتخبون، أو نافذون، يُقدَّمون في الإعلام وكأنهم فوق الخطأ وخارج النقد كأنهم ألهة مقدسة. تُحجب زلاتهم، تُبرَّر إخفاقاتهم، ويُهاجم كل من يجرؤ على مساءلتهم، حتى بات من يسائل أو ينتقد شيطان خارج على الجماعة.

هذا النمط من التقديس لا يخدم إلا الاستبداد الناعم الذي باتت تشهده جل الأقاليم الجنوبية، لأنه يصنع صورة وهمية لزعامات “منقذة”، بينما الواقع مليء بالأعطاب، وسوء التدبير ، وتبديد الفرص. والأسوأ أن بعض الصحفيين يتحولون إلى حرّاس للمعبد، يهاجمون زملاءهم بدل محاسبة المسؤولين، وهذا أخطر مما يمكن قوله.

عندما يصبح المقال الصحفي نسخة معدلة من بلاغ رسمي، أو إعلان غير معلن، فنحن أمام انهيار صريح للحدود بين الصحافة والتسويق. الصحفي الذي يبيع قلمه مقابل امتياز أو إعلان أو قرب من السلطة، لا يمارس مهنة، بل يشتغل سمسارًا للسمعة، وهنا يفقد الإعلام مصداقيته، ويفقد المواطن ثقته، وتتحول الصحافة من أداة وعي إلى وسيلة تضليل ناعم، تُعيد إنتاج نفس الوجوه، ونفس الخطاب، ونفس الفشل.

لا يمكن فهم ظاهرة التطبيل الصحفي بمعزل عن واقع الهشاشة الاقتصادية التي يعيشها عدد من الصحفيين، ولا عن ضعف التكوين المهني وغياب التأطير الأخلاقي داخل بعض المؤسسات الإعلامية. حين يشتغل الصحفي بلا أجر قار، وبلا حماية اجتماعية، وبلا أفق مهني واضح، يصبح القلم قابلًا للانكسار أمام أول صاحب نفوذ أو مال حتى وان كان فاسداً والأخطر هو عندما يكون غبياً … غير أن هذا التفسير، رغم وجاهته، لا يبرر السقوط في المدح المجاني وتحويل السياسيين إلى رموز مقدسة.

فالصحافة ليست صدقة تُمنح مقابل الثناء، ولا رزقًا يُستجدى عبر تلميع السياسيين الذي لم يقدمو اي انجاز يستحق الثناء… الرزق، في جوهره، مرتبط بالإيمان والعمل، لا بتحويل المقال إلى نشيد تمجيد، ولا بتحويل الصحفي إلى ظلّ يتبع السلطة والنخب حيثما مشو. من يختار التطبيل يربح لحظة رضا عابرة، لكنه يخسر احترامه، ويقايض كرامته المهنية بوهم القرب من النفوذ.

الأخطر أن التطبيل لا يصنع مكانة، بل يصنع أضحوكة. فداخل الصالونات النخبوية، كثير من السياسيين يحتقرون في قرارة أنفسهم كل من يمدحهم بلا مبرر، ويعتبرونه مجرد أداة تُستعمل وتُرمى. فالمدّاح لا يُحترم، بل يُستغل، ولا يُؤتمن، بل يُداس عليه أول ما تتغير موازين القوة.

لهذا، فإن إنقاذ الصحافة لا يمر عبر مزيد من التملق، بل عبر استثمار حقيقي في التكوين، واستقلالية اقتصادية، وشجاعة أخلاقية وصحافة حقيقية تعيد للقلم هيبته. فصحفي فقير بكرامة، أصدق وأبقى، من طبّال غني مؤقتًا، منسيٍّ غدًا.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!